"توطين".. ورؤية أبعد من التوظيف

حافة السؤال

 

 

حمد الصبحي

في تاريخ الأمم لحظات فارقة، تتحول فيها القرارات من مجرد خطوات إدارية إلى علامات مضيئة في مسيرة النهضة، وفي سلطنة عُمان؛ حيث تتكئ الدولة على إرث حضاري عريق، وتستند على قيادة واعية تضع الإنسان في قلب كل رؤية، جاء التوجيه السامي الأخير ليعكس هذه الفلسفة الراسخة؛ إذ أمر جلالة السُلطان المعظم- أيّده الله- بمضاعفة المخصصات المالية الموجهة لبرامج تشغيل الباحثين عن عمل لتبلغ 100 مليون ريال عُماني، وهو رقم لا يُقرأ من زاوية الكم فقط؛ بل من زاوية الدلالات العميقة التي يحملها، بوصفه رسالة ثقة وأمل ومسؤولية، وهي مسارات زمنية تبرهن العمل.

إن هذه الخطوة لم تأتِ معزولة عن سياقها؛ بل جاءت امتدادًا لمسار وطني متدرج يؤمن بأنَّ التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي عنده. فمنذ إطلاق مبادرات التشغيل ودعم الأجور، شهدت الساحة الاقتصادية والمجتمعية تفاعلًا لافتًا؛ إذ أبدى القطاع الخاص استعدادًا متناميًا لفتح أبوابه أمام الطاقات الوطنية، وأظهر الشباب العُماني حيوية واضحة في الاستجابة لهذه الفرص. وكان لا بد من قرار يعزز هذا الزخم، ويمنحه دفعة جديدة، فجاء التوجيه السامي ليكون بمثابة الوقود الذي يضمن استمرار الحراك وعمقه.

ومن أبرز ما يميز هذه المرحلة أن الدولة لا تكتفي بدعم مالي أو إجراءات وقتية؛ بل تبني منظومة متكاملة عبر أدوات حديثة، في مقدمتها المنصة الوطنية للتوظيف "توطين" التي دُشِّنَت في ديسمبر 2024. هذه المنصة لم تُصمم لتكون مجرد سجل للوظائف أو قناة للبحث التقليدي عن عمل، وإنما لتعمل كجسر استراتيجي يربط بين طموحات الشباب واحتياجات سوق العمل، وبين آمال الباحثين عن فرص وحاجات المؤسسات الباحثة عن كفاءات. فمن خلال ربط قواعد البيانات وتوسيع نطاق الشركات المسجلة فيها، تصبح المنصة بمثابة عقل إلكتروني ذكي يقرأ حركة السوق، ويُحلِّل اتجاهاته، ويوفر عدالة في عرض الفرص بعيدًا عن المحسوبية أو العشوائية، لتتحول إلى أداة شفافة تعكس جوهر العدالة التي تنشدها الدولة.

غير أن ما يُعزِّز قيمة هذا التوجه هو أنه لم يُحصر في دائرة التوظيف فقط؛ بل اندمج في رؤية أوسع ترتبط بمستقبل الاقتصاد العُماني؛ فجلالته- حفظه الله- ربط التشغيل بمُستهدفات خطة التنمية القادمة، ودعا إلى ابتكار آليات جديدة لرفع معدلات النمو، وتوسيع هيكلة الاقتصاد، وتنويع مصادر الدخل. وهذه الرؤية تؤكد أن الوظيفة ليست غاية نهائية، وإنما وسيلة ضمن وسائل أخرى لبناء اقتصاد قوي قادر على التكيف مع التحولات العالمية. إنها رسالة واضحة بأن التشغيل في حد ذاته ليس مجرد استجابة لحاجة آنية؛ بل هو جزء من مشروع وطني أشمل يُراد له أن يصنع اقتصادًا مرنًا ومجتمعًا متماسكًا يملك أدواته لمواجهة المستقبل.

 

ولعلّ من أبلغ ما حملته هذه القرارات، التوجيه بإنشاء قطاع جديد بمستوى وكيل وزارة ضمن هيكل وزارة التنمية الاجتماعية يُعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة. إنها خطوة ذات أبعاد إنسانية وتنموية معًا، تُثبت أن فلسفة الدولة لا تنظر إلى ذوي الإعاقة بوصفهم فئة تحتاج إلى رعاية استثنائية فحسب؛ بل تراهم طاقات كامنة قادرة على الإسهام في التنمية متى ما توفرت لهم البيئة المناسبة. بهذا التوجه، تتحول العدالة الاجتماعية من شعار إلى ممارسة فعلية، ويتحول مفهوم الشمولية من إطار نظري إلى واقع حيّ، يجعل من عُمان بلدًا لا يترك أحدًا على الهامش.

إن ما يبعث على التفاؤل أن هذه القرارات تأتي في وقت يشهد فيه العالم تحولات اقتصادية كبرى؛ حيث تتسابق الدول لتوظيف التكنولوجيا وتطوير أسواق العمل وتوسيع قاعدة الإنتاج. وفي مثل هذا السياق، لا يمكن لعُمان أن تظل متفرجة؛ بل كان لا بُد أن تؤكد حضورها بخطوات استراتيجية تجعلها قادرة على المنافسة والاستفادة من التحولات. وهنا تتجلى عبقرية الرؤية السامية التي لم تكتفِ بالاستجابة للحاضر؛ بل وضعت عينها على المستقبل، فجمعت بين معالجة التحديات الراهنة وبناء الأسس لمجتمع الغد.

والأهم أن منصة "توطين" لم تُنشأ كحلٍ مؤقتٍ لمعالجة فجوة آنية؛ بل كأداة طويلة المدى ترتبط برؤية الدولة لمستقبل الاقتصاد؛ فهي تمثل همزة وصل بين خطط التنمية الوطنية ومعدلات النمو الاقتصادي، بما يجعل الوظيفة خطوة على طريق أوسع: طريق بناء اقتصاد قوي قادر على التنويع والتكيف مع التحولات العالمية.

إنَّ ما يميز "توطين" أنها لا تختزل التوظيف في كونه عقد عمل وراتبًا شهريًا؛ بل تنظر إليه باعتباره استثمارًا في الإنسان نفسه، وتأكيدًا لمبدأ العدالة الاجتماعية، وتجسيدًا لمفهوم الشراكة بين الدولة والمجتمع. ولهذا فهي ليست مجرد منصة رقمية، وإنما مشروع وطني متكامل يعكس رؤية القيادة الحكيمة التي جعلت من الإنسان محور النهضة وأساس استدامتها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة